تعرفت على "أحمد" أثناء أجازتي القصيرة التي
قضيتها مع البحر والسماء في الصيف الفائت، تحدثنا كثيراً وكنت أحياناً ما أرافقه في
المرور على الشاطئ وحمامات السباحة التي يفصل بين كل منها والآخر مسافة كبيرة يمشيها
على قدميه حاملاً على كتفه ذلك الصندوق الزجاجي الكبير الذي تسكن فيه الفريسكا
بأنواعها كل يوم.
ولأن "أحمد"، ذلك العشريني ذو الملامح المصرية
الصعيدية، مصري أصيل.. فهو يعلم جيداً أن "الرزق يحب الخفية"، لذلك كان
دائماً ما يُلقي تحية حارة على كل من يقابله، مصحوبة بلقب يقدره هو "دكتور أو
بشمهندس". لصداقتنا، أزلنا الألقاب، هو يقول لي "علوة".. وأنا
أُناديه "أبو حميد".
تملكني فضول شديد تجاه أسرار مهنته، وهو أفادني كثيراً..
عَلَّمني –مثلاُ- طريقة حمل الصندوق بأقل ألم ممكن على فقرات الرقبة والظهر. عرفت
كيفية فتح صندوق الفريسكا على البحر بحيث لا تضرها الرطوبة، يجب أن تولي ظهرك
للبحر.. ثم تفتح الصندوق لتأخذ منه ما تُريد وتغلقه سريعاً.. "قبل ما الهواء
ياخد باله".
كان "أحمد" يبيت مع عمال آخرين في مسكن متواضع
بقرية ساحلية مجاورة، يخرج كُل يوم بصندوقه في السابعة صباحاً على باب تلك القرية،
إلى أن تأتي سيارة مصنع الفريسكا التي تمر على القُرى لتوزيع بضاعة اليوم على
العُمال، يأخذ منها نصيبه، وهُنا –فقط- يسمح له بأن يأكل واحدة أو اثنتين من الفريسكا
الموجودة بسيارة المصنع، وبعد أن يملأ صندوقه الزجاجي.. ينتظر الفرج في سيارة نقل
مارة على الطريق السريع يستجيب سائقها لإشارته وينقله إلى القرية التي يبحث فيها
عن رزقه، حكي لي أنه ذات مرة لم يعثر على ابن حلال يقله، فمشى الثلاث كيلوات على
قدميه، وصل متأخراً فوبخه أحد إداريي القرية وكان مكسبه في هذا اليوم هزيلاً حيث
أنه كان قد استنفد طاقته ووقته.. فوبخه المسئول عن جمع إيرادات اليوم هو الآخر.
له من المَكسَب عشرين بالمائة، والفريسكا الواحدة بجنيهين،
ربما يرى البعض أن شقاء هذه المهنة لا يتناسب مع فوائدها المادية، لكنه يقول:
"آهي حاجة تستر وخلاص".
للأسف.. انتهت أجازتي، وودعت صديقي بعد أن التقطت لنفسي
معه صورة تذاكرية على وعد منه بأن نتقابل قريباً في أقرب فرصة، سَجَّلت رقم
"أحمد" على هاتفي الخاص، ولم تنقطع صلتنا إلى الآن..
لم يخطر على بالي يوماً أن الفريسكا سوف تكسبني صديقاً، فشُكراً لها.
--
أوحشني !
اتصلت بصديقي "أحمد" اليوم لأطمئن عليه، بعد أن
انتهى موسم الصيف، وهجر المصيفون شاليهاتهم الفخيمة، وخلى المكان للشتاء الذي قد
حَل بأمطاره ونَوَّاته وصفير رياحه.
أحمد.. الآن يقضي أجازة ليومين مع عائلته في مركز طهطا
في سوهاج، سيسافر إلى الإسكندرية بعد ذلك للعمل كـ"عَتَّال" في إحدى
شركات المقاولة.. استرجعنا أحادثينا في هذه المكالمة التي استغرقت كثيراً، وعندما
تطرقنا للسياسة، أخبرني بأنه لا يعرف ما يجري في البلد ولا يهتم بمعرفته أصلاً،
وقبل أن ننهي المكالمة، أوصاني بأن أدعُ له كي ييسر المولى أمور عبده، وأن يتيح له
مواصلة آمنة بعد يومين إلى الإسكندرية –حيث العمل الشتوي-..
"عشان بيقولوا البلد فيها لَبَش والأمن غير مستتب".
علي هشام