(1)
مال عليَّ بجذعه مقدماً لي يمناه الممسكة بعلبة
سجائر مفتوحة بعد أن استل هو منها واحدة أسكنها زاوية فمه، سأل:
-
سيجارة ؟
يدي الاثنتين وضعتا
تلقائياً على ياقة قميصي فخراً، ثم حشرجات مفتعلة.. وإجابة:
-
لا والله.. أنا أصلي مبادخنش.
الفخر هُنا كان لشيئين،
واحد أنا سبب فيه.. وهو أنني نظيف تماماً "ذلك التعبير الذي أطلقه عليَّ صديق
هندي لأنني لا أُدخن، مثله"، والآخر ليس لي يد فيه على الإطلاق، وهو أن الرجل
توسم في احتمالية أن أكون مُدخناً، فشكلي بات لا يشي بطفولة، أي أنني كبرت.. وهو
ما قد ينجيني من يدين تمتد فجأة على وجنتي مداعبة: "لمض قوي". وعلى صعيد
آخر.. نفس الشيء، قد يكون أعلن عن دخولي في دوامة الحياة الحقيقية التي تبتلع من
يقترب منها، ولا أدري إن كانت قد ابتلعتني فعلاً، أم أنها مازالت لم تفعل.. وأنني
لم أرَ "حاجة" بعد !
(2)
شعرٌ ناعم خفيف سكن تحت
السالفين، سرعان ما تسلل إلى الذقن بينما كان قد اكتمل الشارب فوق الشفاه العُليا،
ورويداً رويداً صارت لحية مكتملة بشارب كالكبار، نادراً ما توجد عند أحد من سنه.
وفجأة.. باتت تُطرح أسئلة لم يعتد عليها يوماً:
-
إيه الدقن دي؟ تدين وللا روشنة وللا نتانة؟
لتأتي الإجابة العفوية:
-
نتانة طبعاً !
(3)
ترك الرجل الكرسي الذي
كان يجلس عليه أمام متجره، وانتصب واقفاً مبحلقاً في وجهه متأففاً:
-
لازم يعني تمشي من على الرصيف ؟
ثم تابع متمتماً لمن
بجانبه راسماً بيده لحية وهمية في الهواء على وجهه:
-
تلاقيه منهم طبعاً.
(4)
كان الطفل يجري هلعاً على
درج المبنى، صائحاً: "الراجل ده بدقن" مشيراً إليه، فلحقه وأمسك به
محاولاً التفاوض في هذا الأمر، فكان رده: "ابعد عني.. انت أكيد معاك كنابيل
مولوتوس كمان".
منذ أن حدث هذا الموقف..
وسؤالٌ عن ما يسكن في دماغ هذا الطفل يلح عليه، أو ما أسكنه الكبار دماغ هذا الطفل
وما تربى عليه، وبالفعل وجد الإجابة، هو شيء يعف لسانه عن ذكره.. لكن الطفل يسميه –في
لغته-: "بي بي".
(5)
لا أدري ما الدلالة
السياسية لذلك الشعر الذي ينبت للرجال في الوجه ؟؟ يعني هل إذا أزال الإرهابي هذا
الشعر من وجهه صار مواطناً صالحاً وسقط عنه ما اقترفه أو ما سيقترفه ؟؟
(6)
حالة تسيطر على الواحد،
كتب عنها أُستاذنا مُريد البرغوثي في روايته "رأيت رام الله": غبش شامل
يغلل ما أراه، وما أتوقعه، وما أتذكره.
بينما تتملكني هذه
الحالة، والتي لها صلة وطيدة بالاكتئاب، الذي أغلبه تارة ويغلبني تارتين في مستنقع
العبث الذي وجدت نفسي فيه، أجلس محاولاً الكتابة بعد انقطاع، وهموم ستة عشر عاماً
"عُمري" على كتفيَّ، الذي قضيت قرابة نصفهم في اللعب مع المُكعبات،
والحفاظ على توازني وأنا سائر كالبطريق إلى أن أصل إلى يدي أحد أبوي المفتوحتين
على آخرهما مستقبلة إياي، والتظاهر بقراءة كتب ومجلات أمسكتها بالشقلوب، ومحاولة
نطق الباء والميم "بابا وماما".. أما عن النصف الثاني، وها أنا فيه
الآن، أُحاول أن أستكشف هذه الدنيا الفسيحة التي دلفتها فجأة من دون رغبة،
بتفاصيلها الهائلة المزعجة..
وفجأة.. أجد أُستاذي بهاء
جاهين يهمس في أُذني بما كتبه في مقدمة مجموعتي القصصية الأولى:
".. وأدعو الله أن
ترحم السياسة قاتلة الرجال هذا الفتى الذي انغمس فيها قبل الأوان، فيزداد عوده
صلابة دون أن تشوهه مرارة العجز والخيبة والقهر وألاعيب الحواة.."
علي هشام
انت رائع
ردحذف