كان بودِّي أن أُحيِّرك قليلا -عزيزي القارئ- وأتركك تسرح بتفكيرك لتصل للمُخاطَب في “كاف” عنوان المقال، ولكن –ولفشلي أغلب الأحيان في تدبير المفاجآت- قررت أن أحرق لك الأمر بدري بدري، فالعنوان كاملا: ولا يوم من أيامك يا مؤامرة.
لم يدخل “التحرير” فرد أثناء الـ18 يوماً، إلا وقد مَر على لجنة شعبية من التي كانت تعقد على بوابات الميدان. يستقبلك فيها شاب بَشوش –وكأنه كان شرطا للواقفين هناك- يطلب منك إبراز تحقيق شخصية، وبعد أن يتحقق من هويتك يقوم بتفتيشك تماماً، في أثناء ذلك يكون قد اعتذر لك بحرارة مؤكداً أنه يقوم بذلك “على عينه”، إلاَّ أنها أمور مهمة لسلامتك وأمنك بالداخل، ثم يتركك تتفضل.
لا شكَّ أن الثورة التي بدأت بـ”إيفنت” على الفيس بوك لم تكن أبدا ثورة جياع، بل إن السمة الغالبة على المشاركين فيها، كانت أنهم متعلمين –على الأقل- ولا أقصد أن أنفي مشاركة أعداد كبيرة من غير المتعلمين والمعدمين وأبناء الطبقة الكادحة، لكني أتحدث عن الأغلب.. عموماً.. في الميدان لم تكن مضطرا لتقييم أي شخص اجتماعيا أو ثقافياً، ولم يكن هناك فرق أصلاً، كان الجميع في تآلف تام.. كان الميدان هو مصر التي لم ولن نراها لا من قبل ولا من بعد، كان “يوتوبيا” بحق.
وقعت أعيننا في الميدان على لافتة “ارحل يعني Go فاهم ولا No”، سمعنا أغاني الشيخ إمام وسيد درويش، وكان هناك اتجاه واضح لترسيخ العديد من القيم والمبادئ، والتأكيد على مستوى ثقافي راقٍ عاش عليه الجميع، فلم يسمح أحد بالمساس بالمتحف المصري واعترف الجميع بقيمته التاريخية، فانعقدت حوله سلسلة بشرية تحميه في منظر مشرف، على الرغم من أن تلك المنشأة كان يعتليها من يقنصون المتظاهرين في المواجهات، وكان الجميع يعلم ذلك، لكن كانت لديهم القدرة على الفصل بين سياسات سُلطة باطشة، والمسئولية التاريخية، وبعد انتهاء اعتصامهم، لم ينجل المعتصمون عن الميدان إلا بعد تنظيفه وكنسه.. كانت ثورة رومانسية بامتياز.
خمسة أعوام مرت على الثورة، وها قد أصبحت مجرد حدث يقبل الاختلاف، يؤيده البعض، لكن من يعارضونه صوتهم أعلى –بكثير- الثورة مؤامرة، المتظاهرون إرهابيون ممولون وعملاء، الشهداء قتلوا أنفسهم، فيديوهات دهس المتظاهرين مُفبركة، صور قتل المواطنين العُزَّل فوتوشوب، الشهود كاذبون.
خمسة أعوام تم إنهاك شباب يناير خلالها تماما واستنزافهم من شتى النواحي، والآن وقد تم إبعادهم تماما عن المشهد، لم يعد لهم أية مطالب، سوى أن “تسيبوهم في حالهم”، فتطلقوا سراح من أسرتموه، وتكفوا عن ملاحقة من شارك في تلك المؤامرة، وتعتقوهم لوجه الله.
خمسة أعوام، أصبحت فيها الثورة “كُخَّة” وصار اللص –بحكم قضائي بات- الذي قامت ضده الثورة له الحق في ارتشاف القهوة داخل قفص الاتهام.
الوضع مرعب حقاً.
أن ينتحر ثلاثة مواطنين في ثلاثة أيامٍ متتالية تحت عجلات مترو الأنفاق بالقاهرة بؤسا ويأسا من الأوضاع، هذا أمر مُفزع.. أن تغرق البلاد في ظلم وفقر مدقع، وتحرم العباد من حقهم الأصيل في التأوه من أوجاعهم، بل وتلاحق من يقول (آه) وتسجنه، هذا أمر لن يؤدي إلا إلى كارثة مُحققة.
تهميش أغلب ثوار يناير، الباشوات والبكوات، المتعلمين، أبناء الطبقة المتوسطة، الذين عندما أرادوا أن يشوهونهم، ادعوا أنهم يتعاطون الكنتاكي، في الحقيقة لا يعني أي شيء.
يُحكى أن.. أيام المواجهات، كان هناك شاب بسيط يرتدي بذلة بالية، ارتدي “أحلى حاجة عنده” حتى يقابل ربنا بها إذا لقى حتفه في الميدان، في واقعة أُخرى.. أخبرتني صديقة أن أحد الباعة الجائلين دفعها بعيدا عن الضرب وقال لها قبل أن يتقدم للصفوف الأمامية “إنتي ماينفعش تموتي.. إنما أنا فيه مني كتير”.
الغلابة لا يمكن تهميشهم، وإذا قُتِل منهم واحد، يحل محله ألفٌ سوف يأتون بحقه، لن يبق أنين “مَلح الأرض” مكتوما لفترة طويلة. ولا يمكن أن يصبر أحد على الجوع، الذي تدعونا القيادة السياسية لتحمله.
إذا أردت أن تعرف عواقب الجوع، افتح كتب التاريخ وعُد لعهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، واقرأ عن “الشِّدة المُستَنصرية”، عندما أكل الناس القطط والكلاب وأكلوا الأموات، وطفقوا يأكلون الأحياء، وصنعوا الخطاطيف لاصطياد الناس من فوق الأسطح.. هذا حدث في مصر.
ربما نتعرف قريبا على شريحة من الشعب طال صمتها، إذا قلنا عنهم “كادحين”، فنحن ننعتهم بالغنى والترف، لن يطول صمتهم. سوف يقتلعون الأخضر واليابس.. لن يفرقوا بين مؤيد ومعارض للنظام، بل سوف يرون كُل من بات يوما في بيته شبعانا وهم جوعى جانٍ في حقهم.. وهي الحقيقة.
لن يحاكموا أحدا.. لن يهتفوا.. لن يعتصموا.. لن يطالبوا.. لن ينتظروا 18 يوما.. لن يتفاوضوا.
سوف يعصفون بكُل من ظلمهم، ولن ينظفوا الميادين وراءهم، بل سوف يأتون بالظلمة، ويخضعونهم، ويجعلونهم يلعقون الشوارع حتى تنظف تماماً.
حينها، سوف يترحم الجميع على ثورة يناير.. آه لو يعلمون كم كانت رومانسية!