أُحِب الأشياء القديمة، أحترمها وأُقدرها وأنحني إجلالًا لها. رائحة بيت جدتي بالإسكندرية، خليط من رائحة الباركيه والموكيت وعطرها الذي تستخدمه يوميًا، وروائح أُخرى حاولت مرارًا أن أميزها ولم أنجح. كل ما أعرفه أن جدتي رحلت، ولم ترحل رائحتها.
ورثت عن أبي مكتبة مُمتلئة عن آخرها بكتبٍ قديمة اصفرت أوراقها، ألجأ إليها كلما حزنت، لذا ألجأ إليها كثيرًا. دأب أبي في تكوين مكتبته، وقضى أيامًا في فهرستها وكتابة العناوين وأسماء المؤلفين بخطه الجميل على كعب كل كتاب ليسهل علينا التمييز والاختيار. ورثت عن أبي إدمان اقتناء الكتب، والذي ليس له علاقة بشغفي بالقراءة، هذا شيء وذلك شيء آخر. أقتني الكتب لأضمن لنفسي رفقاء دائمين لن يتركوني مهما طال الزمان. كنزٌ أورثه لأولادي وأحفادي يحمي عقولهم من الصدأ. أوراق تصفر بمرور الزمن، وتزداد رائحتها حلاوة.
اعتدت أن أحترم الكبير، ليس لإنجازٍ شخصي له، ولكن كقاعدة عامة واجبة التنفيذ ما استطعت إليها سبيلا، ومادام الكبير يحترم نفسه. لم يكن له دورًا في مجيئه للدنيا في تاريخ مُعين، ولم يَكُن لي يَد في أن آتي بعده. كل ما في الأمر أنه قضى وقتًا أطول مني في هذه الدنيا، وهو في ذاته أمر يستحق الشفقة والطبطبة وتطييب الخاطر.
أقف مشدوهًا فاتحًا فاهي عن آخره منبهرًا أمام الآثار والمعابد ودور العبادة القديمة. أكَم من أحداث تشيب لها الرؤوس مرت على هذا العالم ومازالوا محافظين على هيئتهم؟ فقد أبو الهول أنفه ومازال حيًا بالجيزة في ظاهرة خارقة للطبيعة، دلالتها أنك بقائك حيًا في مصر شريطة فقدانك مناخيرك من كثرة الشخر. صمدت أهرامات الجيزة ولم تهتز بتوالي الأنظمة والحكومات والظروف بشكل عام، لم يجرؤ أحد على هدمها.. حتى الآن.
تحمل حجر رشيد غُربة في بريطانيا منذ ١٨٠١ ولم يطلب من إدارة المتحف البريطاني أجازة واحدة لمصر. صحيح أنه لم يرسل أي حوالات لمصر بالعملة الصعبة لدعم الاقتصاد، لكن لا عَجَب. حافظ الحجر على مصريته ولم يأخذ الجنسية البريطانية، ظل ماكثًا بالقسم المصري حاملًا اسم البلد التي لم تصونه وتحافظ عليه. اكتشف الضابط المهندس الفرنسي فرنسواه بوشار حجر رشيد في ١٧٩٩، فك رموزه شامبليون ١٨٢٢، ثم رقد رشيد في مثواه الأخير بالمتحف البريطاني حيث يطوف الناس حوله منبهرين من كل جانب. أما نحن فاكتفينا بدور عاطف في فيلم الناظر: شكرًا. هاجر حجر رشيد من بلده التي لم تفهم طلاسمه، وارتمى في أحضان الأوربيون الذين فكوا رموزه.
دخلت القسم المصري بالمتحف البريطاني، وابتسمت في فخرٍ من حفاوة الزائرين بآثار بلدي. وقفت أمام حجر رشيد، نظرت إليه، غلبتني رغبة عارمة في البكاء، فاستأذنت من عيني دمعة في الانصراف، فتركتها. نظرت لرشيد وأخبرته بأني مثله لم تفهمني مصر.. ولم أفهمها.. ولكني أُحبها.. تمامًا مثلك يا حجر.. تمامًا مثلك يا حجر.
أعترف بأن مصر عَصيَّة على فهمي. بلدٌ شديدة الجمال والقُبح في آنٍ واحد. شعبٌ ليس له كتالوج، تارة يجعلني فخورًا وتارتين يجعل مفقوعًا. قرأت في أنظمة السياسة والاقتصاد، ولم أقتنع لمصر بتصنيفٍ واحد على مر التاريخ. بلد غلطة الكمبيوتر، وتعاشب شاي، ومع احترامي لحضرتك، وبدون قطع كلامك. بلد الفنانين والشعراء والكتاب والعباقرة والضلالية والمفتريين والأمين أشرف والبصمجية الذين لا يفرقون الألِف من كوز الذرة. بلد لم تفهمني، ولم أفهمها، ولكننا قررنا ألا ننفصل عشان الأولاد. بلد إذا أردت أن تنفصل عنها، لن تنفصل عنك ولو أخذت ١٠٠ جنسية أُخرى. مصر وحمة، طالعالنا كلنا، ومش هاتروح، ولو روحنا لأشطر دكتور تجميل عشان يشيلها، هتسيب علامة.
لم أفهم مصر، ولم تفهمني. صُنتها، ولم تصنِّي تمامًا كما لم تَصُن الحجر. أنا مثلك يا حجر.