الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024

اصطفتني من بين الآلاف المتظاهرين أمام مبنى البي بي سي بقلب لندن. طفلة جميلة في عقدها الأول، قمحية البشرة تميل إلى البياض قليلًا، شعرها مصفوف يتدلى في ضفيرتين منتظمتين، على وجنتيها نمش بسيط كأنما كانت الرتوش الأخيرة التي لمسها الفنان قبل أن يضع ريشته منتهيًا من اللوحة. رأيتها تسير نحوي، واستغربت في بادء الأمر أنها وحيدة في هذا الزحام، لكن وجهها المطمئن وشى بالخير.
أمسكت بطرف بقميصي وكأنما تشدني ناحيتها لأسفل، انحنيت واقتربت بإذني نحو فاهها، فقالت لي إنها تائهة، أتت إلى المظاهرة مع أبيها وأمها وأخيها الأكبر في الصباح ثم اختفوا عنها. صُدمت، وشعرت بالبرد يتسلل إلى أطرافي من هَول المسؤولية التي أصابتني من حيث لا أدري دونًا عن هؤلاء الآلاف. سارعت بطمأنتها وقلت لها ألا تخاف، سوف أساعدها أن تصل لهم ولن أتركها، سوف نعثر عليهم، فقالت لي: بخافش يا عمو بس ساعدني الاقيهم.
حملت الصغيرة على يدي، وضممت ذراعي الملفوف على ساقيها لئلا تسقط، أو تتوه مني، ضممتها إلى صدري حتى صرنا واحدًا. قلت في أذنها، سأسير بين الناس وإذا رأيتي أحدًا تعرفيه أوقفيني، فهزت رأسها موافقة.
سرت كثيرًا حاملًا إياها، مسحت الصفوف من آخر المظاهرة لأولها، ولم توقفني. لم أعد أسمع الهتافات، أصبح تركيزي كله منصبًا على الصغيرة التي اختارتني لتلقي عليَّ مسؤولية ثقيلة لم أخترها، ولم أستعد لها. ورغم هذه المسؤولية الثقيلة، كانت صديقتي خفيفة، ولم أشعر بشيء ثقيل أحمله على ذراعي، كانت خفيفة كريشة، كنسمة، كإنني لا أحمل شيئًا.
كلما انتبهت لها، وجدتها تلعب في ياقة معطفي، أسألها إن كانت منتبهة ومازالت تتفقد الوشوش، فتومئ إيجابًا كأنها تطمئنني بثقة. ساعة، ساعة نسير سويًا، وبعد ساعتين بدأ يصيبني اليأس، ما الحل؟ ماذا لو لم أجدهم حتى نهاية اليوم؟ أأذهب بها للشرطة؟ أتخلى عن صديقتي التي لجأت إليَّ وأتسبب في جرح غائر يلازمها ويلازمني ما حيينا؟ أتخلى عنها كما تخلى العالم كله عنها؟ أم أصطحبها معي المنزل؟ هل هذا قانوني؟ وجع قلب.. وجع قلب خالص لا أقوى عليه.
هي فلسطينية، وأهلها فلسطينيون، كأنما كُتب على ذلك الشعب الفراق والشقاء حتى ولو في آخر الدنيا. كأنما كُتب عليهم الصبر والبطولة كما صديقتي الصغيرة الوديعة صابرة على بلاء فقدانها أهلها هذا الصباح.
كانت طائرة مروحية تجول فوق المظاهرة، ربما تلتقط صورًا، أو تفحص الشوارع لتعرف السلطات عدد المتظاهرين. رفعت صغيرتي رأسها لأعلى، فأشرت لها على المروحية، بصي بصي الطيارة فوق حلوة ازاي؟ فابتسمت، وسألتني في حذر: هاي ما بتقصف يا عمو؟
تجمدت، ولم أرد. فكأنما أرادت صغيرتي أن تطمئنني هي، فقالت لي شكلها جميل يا عمو، "خَيي عندو طيارة متلها". أبهرتني، كيف لصغيرة في موقف كهذا بأن تقطف لي أملًا من زرعة الصبار؟
أكملت السير حاملًا صغيرتي. كلما خفت، طمأنتني. كلما تُهت، أرشدتني. كانت تنقل يدها بين معطفي وشعري، تمشي بيدها على شعري كأنما تذكرها بشيء ما، وجدتها تبتسم، فأخبرتني بأني أشبه أباها.
ابتسمت، وخفت، ولم أطمأن إلا حينما مررت يدها مرة أخرى على شعري، ولمحت ابتسامتها، طمأنتني.
سألتها إن كانت جائعة، فأجابت بأنها ليست جائعة مع إنها لم تأكل. سألتها إن كانت عَطشة، ففهمت من صمتها وابتسامتها الخجولة إنها عطشانة، فاشتريت لها العصير الذي تحب من أقرب متجر، وأكملت السير وهي تشرب العصير.
ازدادت الأعداد، وعلت الأصوات، وازداد الألم في داخلي، والمسؤولية، والخوف، والورطة، لكن غمرتني جرعات هائلة من الحب والعطاء. سألتها عن اسمها، فقالت لي "اسمي فلسطين يا عمو"، يا الله.. حملت فلسطينًا على يدي، احتضنتها، وسقيتها عصيرًا، وأبحث لها عن ضالتها. يا الله.
لم تنته المظاهرة، لكن الأعداد قلت، ومن بقي أُرهق، خاصة بعد أن انتشرت أخبار بموجة جديدة من التهجير القسري في غ ز ة. سرت كثيرًا وفلسطين على يدي أضمها نحو صدري، وبدأت قدماي تؤلمني من كثرة المشي. أوقفتني فلسطين فجأة، فقلت خيرًا، حتمًا رأيتي أحدًا، أين هم يا فلسطين؟ فقالت لي: ع شو بتدور يا عمو؟ أنا فلسطين، شهيدة، بيتنا انقصف وبابا وماما وخَيي تحت الانقاض، وأنا سبقتهم عالسما، إذا لقيتهم قلهم فلسطين مشتاقة لكم كتير. يللا تعالوا ع هون.

علَت الأصوات من حولي، المظاهرة كلها تهتف "فلسطين فلسطين.. فلسطين فلسطين". نظرت لفلسطين فلم أجدها بين يدي، طارت، فحملت فلسطينًا في صدري، وأكملت السير بحثًا عنها وكل ما يتعلق بها.